ونوجز ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى بعد ذلك، إذ لا حاجة للإطالة فيه، وهي: أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد ينقل أو يقال: إن كلامه مختلف في قبول خبر الآحاد، ففي كتابه اختلاف مالك صرح بأن خبر الآحاد يفيد العلم، وفي الرسالة قال ما يشعر بخلاف ذلك، ولو نظرنا إلى كلامه في الرسالة لاتضح لنا كما قال ابن القيم رحمه الله: إنه يرى أنه يفيد العلم؛ لأن الذي قال في الرسالة هو: فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملاً للتأويل. أي: ليس نصاً صريحاً، أو ليست دلالته قطعية، إذ تحتمل ألفاظه أكثر من دلالة وكما هو معلوم كثير من الأحاديث تحتمل أكثر من دلالة، بل حتى في الآيات، فهل الباء في قوله تعالى: (( وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ))[المائدة:6]للعموم أم ماذا؟
وهل اللمس في قوله تعالى: (( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ))[النساء:43] يراد به اللمس المعروف أم الوطء؟
إن لفظ الآية ولفظ الحديث قد يحتمل، يقول: وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصاً منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب، وقلنا: ليس لك إن كنت عالماً أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنا من ذلك.
إذاً لو لو دققنا النظر لوجدنا أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لا يقول إنه لا يفيد العلم، لكن يقول: حديث الآحاد الذي دلالته محتملة ليس مثل نص الكتاب، وليس مثل الحديث المتواتر أو قطعي الدلالة، وهذا حق، إذ إن غاية ما يقوله الشافعي رحمه الله تعالى: أن العلم متفاوت، ونحن نقول ذلك كما قرر الشيخ رحمه الله تعالى، يقول: إن يكون العلم المستفاد من خبر الآحاد، نفى الشافعي رحمه الله تعالى أن يكون هذا العلم مساوياً للعلم المستفاد من نص الكتاب وخبر المتواتر، وهذا حق، فإن العلم بتفاوت في القوة والضعف، فالعلم الذي نأخذه من خبر الآحاد ليس كالعلم الذي نأخذه من خبر متواتر، وليس المتواتر من الأحاديث كالعلم المأخوذ من نص الكتاب، لكن يقول: ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، فماذا يقصد الإمام الشافعي بذلك؟ إنما نكفر أو نضلل من رد ما كان صريحاً من الأخبار، أما ما كانت دلالته محتملة فإنا لا نقول له: تب من بدعتك أو ضلالتك أو كفرك؛ لأن بعض العلماء يكفر رد من خبر الآحاد، والكلام فيه تفصيل وكلام طويل، لكن المقصود أن من رد خبر الآحاد فإنه أقل ما يقال فيه: إنه مبتدع؛ لأنه رد الحديث برأيه أو هواه أو بما يراه معقولاً في نظره، فنقول: يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: نحن لا نقول له: تب إذا كانت الدلالة محتملة، ولكن نقول له: يجب عليك أن تعمل به، كما يجب عليك لو كنت قاضياً أن تقضي بشهادة الشاهدين، مع احتمال أن يكون الشاهدان كاذبين، فكذلك بهذا الحديث مجرد احتمال أن يكون الراوي غلط أو نسي، أو أن الدلالة غير صريحة نقول: هذا الاحتمال يجعلنا لا نقول لك: تب، ولكن نقول لك: يجب أن تعمل، ويجب أن تحكم به.